الجمعة، 9 نوفمبر 2018

وليس بعجيب إذن على امرأة بلغت درجة الفتوى أن تكون مهتمة باقتناء الكتب، ومما يؤيد ذلك إطلاعنا على مخطوطة لكتاب المحاربة للشيخ بشر بن محبوب بن الرحيل رحمه الله – وقد كتب في آخر المخطوطة: (كتاب المحاربة – للشيخة التقية الرضية المرضية العالمة الزاهدة عائشة بنت راشد بن خصيب الريامية البهلوية) وهذا الكتاب يقع في أربعة وثمانين باباً، تتضمن أبواباً في العقيدة الصحيحة كالولاية والبراءة وما لا يسع جهله وما يسع جهله وغيرها، وأبواباً أخرى متفرقة كالإمامة والجهاد والدعاوى والقذف وذكر بعض الطوائف الضالة وغيرها من الفروع المهمة في الدين.
ولم تكتف الشيخة عائشة باقتناء الكتب التي يصعب امتلاكها في ذلك الوقت فحسب، ولكنها رأت أيضا أن نسخ الكتب له أهمية بالغة في حفظها من الاندثار، وذخراً للأمة عند تقلب الدهور والأزمنة وبقاءً للعلم، فطلبت من مسعود بن راشد بن حرمل بن مرشد المعمري الخروصي نسخ كتاب جوابات الشيخ أحمد بن مدّاد النزوي الذي هو من علماء القرن العاشر، وتم الانتهاء من نسخه ليلة الخميس لثمان ليال بقين من شهر رمضان عام 1128هـ، وفي مخطوط بيان الشرع الجزء الرابع عشر، ذكر الناسخ بأنها نسخة للفقيهة العالمة عائشة الريامية، وتم الانتهاء من نسخه في الثامن عشر من ربيع الثاني من عام 1128هـ.
ولقد كانت في عصرها- عصر اليعاربة نساء أخريات غيرها، اشتهرن بالعلم فما أعظمه من عصر انتشرت به تلك العالمات ليكن قبسا ترجع إليهن كل فتاة فيما أشكل عليهن في أمور دينهن ودنياهن ويكن شعلة تنير الطريق أمام كل فتاة تحب العلم وتسعى إليه.

العالمة الجليلة عائشة الريامية

يضم التأريخ بين دفتيّ سطوره من التراجم والسيّر المشرفة للمرأة العربية ما شاء الله ، لقد أثبتت المرأة العُمانية مثلها مثل المرأة العربية على مرِ العصور أنها قادرة على العطاء في مجالات الحياة المختلفة إذا ما سنحت لها الفرصة ودعمها المجتمع وهذا الأمر هو الذي يدحض الحجج الزائفة التي يتعلل بها دعاة تحرير المرأة اليوم ؛ فالمرأة بعد الإسلام أخذت حقها الذي باركهُ لها الدين وشاركت شقيقها الرجل ووصلت إلى مراحل متقدمة من العلم والمعرفة ، إلا أن المؤرخين لم ينصفوها حقها في كثير من المواضع فبقت الشواهد والقصص يتيمة من الأسماء النسائية المشرفة !

في قائمة تراجم النساء العُمانيات على مر التأريخ أسماء لامعة حق علينا اليوم أن نعيد أحياء سيرتها وتراثها العظيم ، ومن بين هذه الأسماء العالمة الجليلة عائشة الريامية التي كانت مرجعاً علمياً لعلوم الدين في ولاية بُهلا .

عائشة بنت راشد بن خصيب – وفي رواية أخرى بن حبيب – الريامية البهلوية ، سيدة فاضلة وعالمة جليلة وفقيهة مفتية ، لم تحدد لنا المصادر التاريخية تأريخ مولدها ، ولدت وعاشت في ولاية بُهلا – أحد مدن المنطقة الداخلية بعُمان – حيث كانت تسكن حارة الغاف شرق مسجد الحارة .

تذكر المصادر التاريخية أن ولاية بُهلا كانت منذ فجر التاريخ الإسلامي زاخرة بالعلم والعلماء وقد أخرجت الكثير من العلماء من بينهم أربع نساء أشارت المصادر التاريخية والوثائق إليهن بدون ذكر أسمائهن ، كما سقط اسم العالمة الجليلة عائشة الريامية في كثير من الكتب إلى الشيخة بنت راشد بن خصيب !

اتصلت العالمة الجليلة عائشة الريامية – وكانت عمياء – بعدد من علماء نزوى كما اعتمدت على نفسها في تحصيل الكتب ومطالعتها والاستفادة منها . وقد عاصرت الشيخة أواخر عهد الدولة اليعربية .

ولقد أشارت بعض الكتابات المعاصرة إلى وجود مؤلفات للشيخة عائشة لكنها تلاشت منها “جوابات الشيخة عائشة ” ورغم ذلك فهناك العديد من المصادر التي تورد ذكر الشيخة موضحة سعة إطلاعها في مجال الفقة خاصة .

ولم تنحصر جوابات الشيخة عائشة على فقه النساء بل امتدت أجوبتها إلى أبواب الطهارة والحج والنذور … وألخ

لقد كانت الشيخة تلميذة ومعلمة يقصدها التلاميذ في الآن نفسه ، حيث سجل بعض تلاميذها عنها أجوبتها في المسائل الفقهية إلا أن مشاركتها في الجانب السياسي رغم ما كان في فترة من حياتها من توتر سياسي في المنطقة فلا أثر له إلا حادثة واحدة أشار إليها عبدالله الطائي في كتابه ” دراسات عن الخليج العربي ” .

ولقد تبوأت الشيخة عائشة مكانة علمية راسخة تتضح من خلال نعتها بالشيخة والعالمة والفقيهة ، كما ذكرت مصادر أخرى بأن مدينة بُهلا التي كانت تغص بالعلماء كان مرجعها امرأة عمياء وهي الشيخة عائشة الريامية وكفانا قول الشاعر الغشري :

هي امرأة عميا ولكن بفضلها
توازن ألفا من رجال ضراغم

ومثلما لم تشير المصادر إلى تأريخ ولادتها فإنها كذلك لم تشير إلى تأريخ وفاتها ، ويذكر الشيخ الخصيبي بأن ” قبرها موجود في بُهلا بالقرب من مساجد العباد ” وقد رثاها الشيخ الشاعر سعيد الغشري الخروصي بقصيدة يقول مطلعها :

لقد غِيض بحر العلم وانْهدَّ طودُه
وأضحى لواء الدين مُلقى الدعائم
وإن سماء العلم غُيّب شمسه
وقُطْب رحى علم الهدى غير قائم
لسيدة من آل قحطان غُودِرت
ببطن الثرى مثوى العظام الرمائم

أنه من الجدير بنا اليوم أن نعيد سيرة النساء العُمانيات اللواتي كنّ رمزاً من رموز العطاء لهذه الأرض ليكنّ قدوة للأجيال وفانوساً يضئ الدرب ، فلقد استطاعت الشيخة عائشة الريامية أن تقدم بفضل الله وما رزقها من علم الكثير ولقد تبوأت مكانة فرضت على المجتمع احترامها بل ولقد سنح لها هذا الأمر بأن تشارك كذلك في المجال السياسي ، إذن الرهان على المرأة لا يكمن في الزمن ؛ فالتأريخ حفظ أسماء بعض النساء رغم محاولات بعض المؤرخين إسقاطها ، إنما الرهان على العلم والسعي الحثيث من المرأة نفسها على بناء شخصها لتصبح جديرة على المشاركة والعطاء .